غانم و جماعته*
إنها
التاسعة من مساء يومٍ باردٍ، الريح فيه سيدة المكان، يحاول غانم سد كل
فتحات النوافذ والباب حتى ينعم بنوم هادئ خالٍ من قرصات الزمهرير وقرعات
الريح، ولكن الريح لا تهدأ.. توسد يده مؤمناً بهزيمة الرياح، صابراً يحاول
النوم.. أطفأ قنديله ونام. في كل ليلة يحلم، ولكن هذه المرة طَرْق الباب
يقطع مشاهد الحلم. فز من نومه.. أشعل القنديل، اتجه نحو الباب يحث السير..
فتح جزءاً بسيطاً من الباب ليرى طارق خيرٍ أم طارق شر.. رفع القنديل للأعلى
قليلاً ليرى ملامح وجه الطارق.. رأى وفزع ثم أغلق الباب بسرعة وقال
سائلاً: لمن هذه الملامح الكالحة؟! وتلك الرائحة التي بها، مِمن؟! قالت
بصوت هادئ وحزين: أعرفتني؟! قال وبكامل الخوف والدهشة: لست أدري من أنتِ؟!
ولكن كأن الزمان جمعنا ذات يوم؟! قالت: ذات يوم؟! منذ أن ولدتَ وأنا معك،
كنت مرجعك إن نسيت، وأرقك إن بُليت، وحبك الصادق، وعيشك الزاهد. والآن
نسيتني. قال مشحوباً صوته: زدتني حيرة، وأشعلتِ فضولي، وأربكتِ مشاعري، ولا
أذكركِ. قالت: لا تذكرني لأنك تركتني ثم رحلت.
قالت بصوت جهوري وغاضب: لماذا تركتني، وجعلتني أعيش بين جدران منزلك القديم تائهة؟! خلعتني أواسي ألمي تارة، وتارة أواسي ألمك؟! سكت قليلاً وهدأت الريح وسكنت أغصان الأشجار، ثم استأذنته بالدخول للجلوس معه، وافق.. أدخلها للدار وتلفت يمنة ويسرة على عتبات الدار ثم أدار ظهره نحو الضيفة وأغلق الباب.. جلسا.. قالت له: تراب القرية، وكظامة الوادي التي طالما غرست قدميك في وحلها وتحرف مجرى الماء كل صباح، كيف تخليت عنها؟!.
غانم: والله إنها لأحب الديار إلى قلبي، ولولا ما حصل من خلاف في القرية لما هجرتها وسكنت في أعلى جبل بعيداً عن البشر!. ولكن من أنتِ؟ قالت: في الصباح انطلق إلى القرية.. قاطعها قائلاً: أخشى أن يراني أحد من الجماعة.
وضعت يدها مبسوطة بالقرب من صدره وقالت: إذن قف بأعلى جبل يطل عليها. وستعرف من أنا وكيف أتيت إليك، والآن عليّ الرحيل.. كن بالموعد.
لم ينم تلك الليلة، سراجه ظل يحرق الزيت حتى الفلق، أسفرت الأرض، خف وميض المشتري من ناحية الشروق، احتزم والسلاح ثالث أطرافه. يتوكأ عليه كلما صعد عراقاً، ويحمله على كتفه إذِ استوى الطريق، وقف على رأس جبل (فاران) بشموخ استمده من طبيعته الجبلية، أجحظ عينيه وقال: ماذا جرى لهذه الأرض؟! لم أرَ لها من باقية؟! أهي القاضية؟! ظل يؤشر على كل مكان يذكر ما حدث له: هذا الجرين، آخر مرة دُست فيه الحنطة قبل خمسة وثلاثين عاماً، وهذه الوجرة اندلقت ساقي من حافتها وسقطت فيها وظلت بنات القرية يضحكن علي، وتلك الرقاعة كنا نأكل فيها الفال.. ثم هم بالنزول.
يسمع صوتاً خلفه، قال تعال أجلس إني أحطت بما لم تحط به علماً. وسأنبئك بما جرى. لقد كانت تلك العجوز -حين كنت تحلم كثيراً- كنت تعيش خيالك أكثر من واقعك، كنت تسعى جاهداً أن تجعل الحُلم حقيقة تعيشها، سعيت في المستحيل، حتى قررت أن تغير موقعك بدلاً من واقعك، بؤسك في الحياة، الحمل السوداوي الذي في صدرك على جماعتك قادك لأن تهاجر وتترك ما نشأت عليه.
- يا ابني صعبٌ عليك أن تغير ما كنت فيه مُسير، ما كسبته في الطفولة لن يتغير في كِبرك حتى لو هربت، فلديك مخزون من الذكريات لا يمكن أن يُمحى أو يزول.. هل لاحظت بأنك لا تزال تذكر أدق التفاصيل وأتفهها في طفولتك؟!..
- ومن أين لك كل ذلك؟!. وكيف عرفتِ تفاصيلي؟
- أنا التي وفيت لماضيك فلم أضيعه، وأعطيتك ما لدي إن طلبت.. أنا الذاكرةَ!
أدرك غانم معاني الانتماء ومفاهيم التغيير، مهما حاول الهروب من الواقع إلى النأي بعيداً عنه ستجره الذاكرة إلى حيث كان، وأدرك أنه كان عليه أن يستمر في تغيير جماعته ويصبر على أذاهم لينجح في إبعادهم عن الخرافة. عزم على البحث عن جماعته ولمّ شتاتهم. وجد أن الزمن كفيل في تغييرهم وانتقالهم للمجتمع المدني.
قالت بصوت جهوري وغاضب: لماذا تركتني، وجعلتني أعيش بين جدران منزلك القديم تائهة؟! خلعتني أواسي ألمي تارة، وتارة أواسي ألمك؟! سكت قليلاً وهدأت الريح وسكنت أغصان الأشجار، ثم استأذنته بالدخول للجلوس معه، وافق.. أدخلها للدار وتلفت يمنة ويسرة على عتبات الدار ثم أدار ظهره نحو الضيفة وأغلق الباب.. جلسا.. قالت له: تراب القرية، وكظامة الوادي التي طالما غرست قدميك في وحلها وتحرف مجرى الماء كل صباح، كيف تخليت عنها؟!.
غانم: والله إنها لأحب الديار إلى قلبي، ولولا ما حصل من خلاف في القرية لما هجرتها وسكنت في أعلى جبل بعيداً عن البشر!. ولكن من أنتِ؟ قالت: في الصباح انطلق إلى القرية.. قاطعها قائلاً: أخشى أن يراني أحد من الجماعة.
وضعت يدها مبسوطة بالقرب من صدره وقالت: إذن قف بأعلى جبل يطل عليها. وستعرف من أنا وكيف أتيت إليك، والآن عليّ الرحيل.. كن بالموعد.
لم ينم تلك الليلة، سراجه ظل يحرق الزيت حتى الفلق، أسفرت الأرض، خف وميض المشتري من ناحية الشروق، احتزم والسلاح ثالث أطرافه. يتوكأ عليه كلما صعد عراقاً، ويحمله على كتفه إذِ استوى الطريق، وقف على رأس جبل (فاران) بشموخ استمده من طبيعته الجبلية، أجحظ عينيه وقال: ماذا جرى لهذه الأرض؟! لم أرَ لها من باقية؟! أهي القاضية؟! ظل يؤشر على كل مكان يذكر ما حدث له: هذا الجرين، آخر مرة دُست فيه الحنطة قبل خمسة وثلاثين عاماً، وهذه الوجرة اندلقت ساقي من حافتها وسقطت فيها وظلت بنات القرية يضحكن علي، وتلك الرقاعة كنا نأكل فيها الفال.. ثم هم بالنزول.
يسمع صوتاً خلفه، قال تعال أجلس إني أحطت بما لم تحط به علماً. وسأنبئك بما جرى. لقد كانت تلك العجوز -حين كنت تحلم كثيراً- كنت تعيش خيالك أكثر من واقعك، كنت تسعى جاهداً أن تجعل الحُلم حقيقة تعيشها، سعيت في المستحيل، حتى قررت أن تغير موقعك بدلاً من واقعك، بؤسك في الحياة، الحمل السوداوي الذي في صدرك على جماعتك قادك لأن تهاجر وتترك ما نشأت عليه.
- يا ابني صعبٌ عليك أن تغير ما كنت فيه مُسير، ما كسبته في الطفولة لن يتغير في كِبرك حتى لو هربت، فلديك مخزون من الذكريات لا يمكن أن يُمحى أو يزول.. هل لاحظت بأنك لا تزال تذكر أدق التفاصيل وأتفهها في طفولتك؟!..
- ومن أين لك كل ذلك؟!. وكيف عرفتِ تفاصيلي؟
- أنا التي وفيت لماضيك فلم أضيعه، وأعطيتك ما لدي إن طلبت.. أنا الذاكرةَ!
أدرك غانم معاني الانتماء ومفاهيم التغيير، مهما حاول الهروب من الواقع إلى النأي بعيداً عنه ستجره الذاكرة إلى حيث كان، وأدرك أنه كان عليه أن يستمر في تغيير جماعته ويصبر على أذاهم لينجح في إبعادهم عن الخرافة. عزم على البحث عن جماعته ولمّ شتاتهم. وجد أن الزمن كفيل في تغييرهم وانتقالهم للمجتمع المدني.
*نشرت في الملجة العربية عدد486
تعليقات
إرسال تعليق