الوطن من جدٍ إلى حفيد
قصة: الوطن من جدٍ إلى حفيد
أنور عبدالله دمهاس-الباحة-
لا أدري عن عمر قطعة الأرض الكبيرة التي وحدها جدي و زرعها بساتين مثمرة و حِنطة و نخيل , ولا أدري كيف حولها لجنة من جنان الأرض .
جدي ينام عشاء و ينهض قبل أن تبدي الشمس , يتوضأ من ماء العيون الجارية ثم يؤذن و يصلي!. كان لزاما علي أن استيقظ مع جدي استيقظت باكرا ؛ لأسأله و يجيبني بكل حكمة!... توضأت وصليت معه... انتهينا من أذكارنا ,,, شمر عن ذراعيه و المسحاة على كتفه نحو الحقول!. كان يحرص أن يجعل بطن قدمه كاملة في التراب دون حذاء! و لا أدري لماذا يحرص على ذلك ؟!
-جدي!!... كيف استطعت أن تنشئ جنتك, و ما أبعد الماْ!
-تخلى عن انحنائه للأرض و نظر إلي وقال شامخا: "لا...فالذي عتقته رمال الجزيرة واستودعته بكارتها يرد الماء".
أكملت القصيدة فقلت: ياااا وارد الماء عل المطايا... .
-جدي أنت مطلع جيد للأدب!
- كنت أقول قصائدي و أتغنى و أروي القصص حين أغرس نخلة. أو أجني ثمرة!. استمد طاقتي من قصائدي بعد توكلنا على الحي القيوم! , الشدو بين البساتين نعمة يا ولدي!, من فقد بستانه يفقد الشدو و يضيع كل ما علمته الحياة من علوم.
تبسمت و مضيت أتجول بين البساتين.. لوحت لي نخلة أخال عمرها 67 عاما(*), أتيتها حييتها أجلستني عند جذورها و اتكأت على جذعها, تبادلنا التحايا,, سرعان ما انسجمنا مع بعضنا ,أرادت أن تشكو لي بطريقتها الخاصة,, أسقطت سبع "برحيات" من صدرها على راحتي وقالت : في كل حصى ترتفع لتؤذيني أسقطها عليهم رطبا جنيا!...
بديهتي أسعفتني بتذكر أبياتٍ لسيد البيد , رفعت رأسي لها وقلت:
قال يا أيها النخلُ يغتابك الشجر الهزيلْ
و يذمك الوتد الذليلْ
و تظل تسمو في فضاء اللهِ ذا طلع خرافي ,,و ذا صبرٍ جميلْ!
حَمَلتْ عُرجونا من صدرها و أنزلته براحتَي جريدها وقالت: أعطيك أكثر مما قلت لي, شكرا أيها الفتي. بددت ما بي و أسعدتْ.
كانت تلك النخلة بحاجة للمودة و الانسجام مع بعضنا بعضا!, و كل ما كانت تريده مني كلمة لجبر خاطرها!.. ضممت جذعها و ودعتها بقبلات.
قدمتُ إلى جدي هلل و استبشر, عرف ما جرى قبل أن أنطق ,,, كان يعرف أسرار كل نبتة بالبستان النخل في وسط البستان, الرمان والعنب في جنوبها ,الزيتون و الورود في شمالها و ينابع الماء في شرقها, و مُصلاه في غربها. كلها تحكي قصة من الألفة والمحبة و الوحدة و التكامل والتعايش!.
قال لي كلاما كثيراً عن أسرار هذه القطعة من الجنة على هذه الأرض.. و أوصاني بها خيرا, و علمني مبادئها و إدارتها.!
-يا ولدي قد يأتي موسمٌ تبخل فيه شجرة في ثمارها , فلا تتضجر من البستان كله!, و إياك و تجاهلها, قدم لها العناية في الموسم القادم, اصلح ما ينكسر , و حين تعصف الريح و تكسر أغصانًا فأغرسها , أعطْ أكثر مما تأخذ ... .
-الآن يا ولدي حان وقت الضحى ,, أفتح مجرى الماء لرمان , و أنا سأصلي الضحى.
فعلتُ ما يريد جدي , و ظللت أتأمل حركات جدي, و كما عهدته, يقترب كثيرا من الثرى , حين يركع تنساب قطرات الماء و العرق لتستقر في الأرض, و حين يسجد تقبله الأرض على جبينه و أنفه!. بعد الصلاة عرفَ سؤالي من نظرة وقال:
الأرض التي لا يلامس صاحبها ترابها لا تستحق أن تكون تحت يده!, الأرض تحس مثلنا, و لكن احساسها سنيين و نحن ثواني, تشعر بالأوفياء. لا خير في بشر لا يعترفون بالأوطان!. هذه الأرض ليست لشخص واحد, الكل شريك فيها و مسؤول عنها , ينميها بطريقته و يحافظ على ممتلكاتها.
-قالت له: و من سقى غرسك عرقاً ودمعاً ودماُ يستاهلك
-قال: سيرة الدم يا ولدي مؤذية...!
-قلت: لابد من التضحية حتى نحميه!
-أهاا,,نعم,,صدقت وطن لا نحميه لا نستحق العيش فيه. و نسأل الله أن يحفظنا من كل مكروه!...يا ولدي غدا أنتم القادة و نحن سنمضي إلى حياة أخرى,, أوصيكم به خيرا!.
أحواض الرمان امتلأت و طفح الماء وانساب في الأرض ..انتبذتُ لأغلق مجرى الماء,, جدي لم يبدي انتباهاً رغم حرصه على كل قطرة , قال: لا داعي للانفعال يا ولدي, ماءٌ خرج من الحوض تلقفه عروق الأشجار!. في كل شبر تحتنا عروقٌ متجذرة كتاريخنا !.
الشمس في كبد السماء , و جدي في كبد البستان أرى شمساً في السماء و قمرا في الأرض!, أره يشعر بالنشوة حين يحنّي يديه بالطين و الوحل يطبع بقعا على ثوبه ولحيته.... حين غمس المسحاة في الفلج و نظفها أعلن مغادرتنا للبستان ...في عودتنا لم يرتدي نعله , مشى حافيا بأقدامه و قال : يا ولدي, من يحب وطنه سيمشي فيه بكامل قدميه و يحتمل الشويكات و الحجارة , فقط الخبثاء يمشون على رؤوس أصابع أقدامهم.
عرفت لماذا جدي يمشي بكامل قدميه ويلتصق كثيرا بالأرض دون سجاد , و عرفت أن تلك الشمس التي غابت عنا لم تغب عن البسان...بعد عقدين من البحث عن أمي , عرفت أنها وطني, و أن الإفساد فيها عقوق.
____________
*هو عُمر شعار المملكة منذ 1950
*فازت بالمركز الأول بمسابقة موهبتي للسعودية عام. ٢٠١٧على مستوى منطقة الباحة
أنور عبدالله دمهاس-الباحة-
لا أدري عن عمر قطعة الأرض الكبيرة التي وحدها جدي و زرعها بساتين مثمرة و حِنطة و نخيل , ولا أدري كيف حولها لجنة من جنان الأرض .
جدي ينام عشاء و ينهض قبل أن تبدي الشمس , يتوضأ من ماء العيون الجارية ثم يؤذن و يصلي!. كان لزاما علي أن استيقظ مع جدي استيقظت باكرا ؛ لأسأله و يجيبني بكل حكمة!... توضأت وصليت معه... انتهينا من أذكارنا ,,, شمر عن ذراعيه و المسحاة على كتفه نحو الحقول!. كان يحرص أن يجعل بطن قدمه كاملة في التراب دون حذاء! و لا أدري لماذا يحرص على ذلك ؟!
-جدي!!... كيف استطعت أن تنشئ جنتك, و ما أبعد الماْ!
-تخلى عن انحنائه للأرض و نظر إلي وقال شامخا: "لا...فالذي عتقته رمال الجزيرة واستودعته بكارتها يرد الماء".
أكملت القصيدة فقلت: ياااا وارد الماء عل المطايا... .
-جدي أنت مطلع جيد للأدب!
- كنت أقول قصائدي و أتغنى و أروي القصص حين أغرس نخلة. أو أجني ثمرة!. استمد طاقتي من قصائدي بعد توكلنا على الحي القيوم! , الشدو بين البساتين نعمة يا ولدي!, من فقد بستانه يفقد الشدو و يضيع كل ما علمته الحياة من علوم.
تبسمت و مضيت أتجول بين البساتين.. لوحت لي نخلة أخال عمرها 67 عاما(*), أتيتها حييتها أجلستني عند جذورها و اتكأت على جذعها, تبادلنا التحايا,, سرعان ما انسجمنا مع بعضنا ,أرادت أن تشكو لي بطريقتها الخاصة,, أسقطت سبع "برحيات" من صدرها على راحتي وقالت : في كل حصى ترتفع لتؤذيني أسقطها عليهم رطبا جنيا!...
بديهتي أسعفتني بتذكر أبياتٍ لسيد البيد , رفعت رأسي لها وقلت:
قال يا أيها النخلُ يغتابك الشجر الهزيلْ
و يذمك الوتد الذليلْ
و تظل تسمو في فضاء اللهِ ذا طلع خرافي ,,و ذا صبرٍ جميلْ!
حَمَلتْ عُرجونا من صدرها و أنزلته براحتَي جريدها وقالت: أعطيك أكثر مما قلت لي, شكرا أيها الفتي. بددت ما بي و أسعدتْ.
كانت تلك النخلة بحاجة للمودة و الانسجام مع بعضنا بعضا!, و كل ما كانت تريده مني كلمة لجبر خاطرها!.. ضممت جذعها و ودعتها بقبلات.
قدمتُ إلى جدي هلل و استبشر, عرف ما جرى قبل أن أنطق ,,, كان يعرف أسرار كل نبتة بالبستان النخل في وسط البستان, الرمان والعنب في جنوبها ,الزيتون و الورود في شمالها و ينابع الماء في شرقها, و مُصلاه في غربها. كلها تحكي قصة من الألفة والمحبة و الوحدة و التكامل والتعايش!.
قال لي كلاما كثيراً عن أسرار هذه القطعة من الجنة على هذه الأرض.. و أوصاني بها خيرا, و علمني مبادئها و إدارتها.!
-يا ولدي قد يأتي موسمٌ تبخل فيه شجرة في ثمارها , فلا تتضجر من البستان كله!, و إياك و تجاهلها, قدم لها العناية في الموسم القادم, اصلح ما ينكسر , و حين تعصف الريح و تكسر أغصانًا فأغرسها , أعطْ أكثر مما تأخذ ... .
-الآن يا ولدي حان وقت الضحى ,, أفتح مجرى الماء لرمان , و أنا سأصلي الضحى.
فعلتُ ما يريد جدي , و ظللت أتأمل حركات جدي, و كما عهدته, يقترب كثيرا من الثرى , حين يركع تنساب قطرات الماء و العرق لتستقر في الأرض, و حين يسجد تقبله الأرض على جبينه و أنفه!. بعد الصلاة عرفَ سؤالي من نظرة وقال:
الأرض التي لا يلامس صاحبها ترابها لا تستحق أن تكون تحت يده!, الأرض تحس مثلنا, و لكن احساسها سنيين و نحن ثواني, تشعر بالأوفياء. لا خير في بشر لا يعترفون بالأوطان!. هذه الأرض ليست لشخص واحد, الكل شريك فيها و مسؤول عنها , ينميها بطريقته و يحافظ على ممتلكاتها.
-قالت له: و من سقى غرسك عرقاً ودمعاً ودماُ يستاهلك
-قال: سيرة الدم يا ولدي مؤذية...!
-قلت: لابد من التضحية حتى نحميه!
-أهاا,,نعم,,صدقت وطن لا نحميه لا نستحق العيش فيه. و نسأل الله أن يحفظنا من كل مكروه!...يا ولدي غدا أنتم القادة و نحن سنمضي إلى حياة أخرى,, أوصيكم به خيرا!.
أحواض الرمان امتلأت و طفح الماء وانساب في الأرض ..انتبذتُ لأغلق مجرى الماء,, جدي لم يبدي انتباهاً رغم حرصه على كل قطرة , قال: لا داعي للانفعال يا ولدي, ماءٌ خرج من الحوض تلقفه عروق الأشجار!. في كل شبر تحتنا عروقٌ متجذرة كتاريخنا !.
الشمس في كبد السماء , و جدي في كبد البستان أرى شمساً في السماء و قمرا في الأرض!, أره يشعر بالنشوة حين يحنّي يديه بالطين و الوحل يطبع بقعا على ثوبه ولحيته.... حين غمس المسحاة في الفلج و نظفها أعلن مغادرتنا للبستان ...في عودتنا لم يرتدي نعله , مشى حافيا بأقدامه و قال : يا ولدي, من يحب وطنه سيمشي فيه بكامل قدميه و يحتمل الشويكات و الحجارة , فقط الخبثاء يمشون على رؤوس أصابع أقدامهم.
عرفت لماذا جدي يمشي بكامل قدميه ويلتصق كثيرا بالأرض دون سجاد , و عرفت أن تلك الشمس التي غابت عنا لم تغب عن البسان...بعد عقدين من البحث عن أمي , عرفت أنها وطني, و أن الإفساد فيها عقوق.
____________
*هو عُمر شعار المملكة منذ 1950
*فازت بالمركز الأول بمسابقة موهبتي للسعودية عام. ٢٠١٧على مستوى منطقة الباحة
تعليقات
إرسال تعليق