*مقهى الأحياء تحت الأرض
تجربة جديدة أن أحمل زادي وكتبي وأتوجه للمقبرة، أستكشف أشياء جديدة، سأسمع
لغاتٍ غير لغات أهل الأرض، قصصاً وأساطير حصلت داخل سياج المقبرة، لا أحد
يعلم تفاصيلها إلا سكان المقابر! وموقنٌ تماماً أن الموتى يحسون بخطواتنا
وأحوالنا. وأرفض تماماً أن تُسمى (مقبرة) أو (مجنة)؛ أسميه: مقهى الأحياء
تحت الأرض!
احترت لأي مقهى من مقاهي الأحياء تحت الأرض أذهب؟! ولا أدري هل هناك شروط ومتطلبات للدخول؟! الأمر الذي متأكد من عدم وجوده في قائمة شروط المقهى هو خلوها من الواسطة! أصلاً من يريد أن يدخلها؟! ومن سيمنعه؟! حتى (الذين يريدون الانتحار هم في الأصل يريدون قتل شيء ما بداخلهم لا قتل حياتهم!).
كل المقاهي تتشابه، سكانها عُراة لكنهم أعفّ ممن فوق الأرض! حتى الذين كانوا يدخنون بشراهة لا أراهم يدخنون! أحاديثهم عن أنفسهم فقط، كلهم يروون طريقة موتهم! حيث كل الطرق على هذه الحياة تؤدي للموت، لكن طريقة انفصال الروح من الجسد ورقيها للسماء مختلفة! هكذا استنتجت عندما أصغيت لسكون المقبرة!.
لا أدري لماذا يربط الناس الخوف بالمقابر؟! أنا أشعر بأنها مجلسٌ حيوي يتحدث فيه الأموات! ونستطيع الإصغاء لحديثهم! ليست مبالغة أني عندما دخلت المقبرة، وجلست أنظر إلى المقابر؛ لهجت بالدعاء لهم، واستشعرت أن هناك تأميناً يشابه تأمين المسلمين بعد دعاء إمام الحرم المكي، إنهم أحياء! لكن لا نراهم، ليسوا أشباحاً ولا حتى لهم علاقة بالجن! ولا أدري لماذا يمزج الناس بين الجن والمقابر؟!
الموت لا يميز أحداً، تماماً كمعدة الجوعى، لا يميزون بين ما هو لذيذ وما هو كريه، همهم هو إشباع رغبتهم وشهيتهم في الأكل، هو الموت كذلك، لكن لا يشبع إطلاقاً. نحن لا نرى الموت، ولا نعرف كيف يحصل سريرياً؛ لكن نرى أثره في المقابر باختلاف أحجامها، وفي قلوب الأيتام والأرامل، نرى أثره في وجه الأحبة حين يفقدون مُحِبهم.
كل شيء حيوي داخل المقبرة! أما خارج السور فإني لم أرَ إلا أمواتاً على هيئة أحياء. ولعل ذلك ما يفسر تسويرنا للمقابر، كأننا نقول: السور يحتضن عالماً آخراً شبيهاً بعالمنا ولكنه أجمل! أجمل لأن الأحياء تحت الأرض لا يغتابون ولا يسرقون ولا يلمزون، بل يدعون لبعضهم البعض، ويؤمِّنون لمن يدعو لهم، ويستبشرون أن مَلَكاً هبط للأرض يخبرهم بأنه قد تصدق عنهم أهل الأرض.
ربما لن أبالغ إن قلنا مبادرة السلام العالمي في حقيقتها تنطلق من المقابر، لا من مجلس الأمن ولا الأمم المتحدة، فمنبع السكون والوئام والتعايش يتجلى داخل سور المقبرة! حتى الذين تعبوا من نصب الحياة حين يجلسون ساعة في سور المقبرة سيخفف الموتى عنهم أعباء الحياة، سيزورونهم في المنام ليخبروهم وينصحوهم، ونعم الناصح والنصيحة إن كانت من ميت، فالموتى هم وحدهم من ختّم شريط الحياة. فقط يحتاجون منا أن ندعو لهم ونتصدق عنهم. ولا عجب حين قال الشاعر (جيت المقابر شكيت الحال، جتني الجماجم تواسيني)! نعم كان محقاً هذا الشاعر العاقل! .
في كل رجْمة (ما يُنصب على القبر من حجر)؛ أرى وجوه الموتى ضاحكة مستبشرة، كأنهم خرجوا بغنائم عظيمة من هذه الدنيا! أخذني أحدهم لركن المقبرة وسألته وبيدي اليسرى كتاب: هل تقرؤون الكتب مثلي؟! ذهب لجاره ثم عاد وفي يده كتاب عتيق! جلس وقال: عند كل واحدٍ منا كتابه الخاص! شدني كثيراً ذاك الكتاب لاسيما أنه معنون بـ(الحياة)، هممت أن أتناوله وأقرأه، ضمه إلى صدره وضم أصابع يده اليمنى كلها ماعدا سبابته، ، لوح بها يمنة ويسرة.
- حسناً، ، كيف أحصل على هذا الكتاب؟!
= لا يمكنك الحصول أبداً! فهو خاص! عندما تكون جاراً لنا ستحصل على ما تريد!
- إذن ولماذا تتفاوت أحجامها وعدد أوراقها؟
= كلما كبر الشخص فوق الأرض زادت صفحات كتابه!
- وما محتواه!
= أنت ستختار ما ستكتبه! ستكتب تجاربك على هذه الحياة بعد أن تموت! وقد تُقبل شفاعتك لترشد من تحب من الأحياء! .
قررت أن أنهي حديثي معه لأتأمل الأطفال وهم يحلقون فوق رؤوسنا! أنهيت زيارتي لهذا المقهى! قلت لهم: شكراً لكم، سأعود لزيارتكم! لم يرد أحد علي سوى طفل لوح لي بيديه. وعلى أية حال إن لم يستطع أحدٌ من أهل الأرض مواساتي، عليّ أن ألجأ للأحياء تحت الأرض فهم الأقدر والأجدر!.
_____
*المجلة العربية 9/9/2018
احترت لأي مقهى من مقاهي الأحياء تحت الأرض أذهب؟! ولا أدري هل هناك شروط ومتطلبات للدخول؟! الأمر الذي متأكد من عدم وجوده في قائمة شروط المقهى هو خلوها من الواسطة! أصلاً من يريد أن يدخلها؟! ومن سيمنعه؟! حتى (الذين يريدون الانتحار هم في الأصل يريدون قتل شيء ما بداخلهم لا قتل حياتهم!).
كل المقاهي تتشابه، سكانها عُراة لكنهم أعفّ ممن فوق الأرض! حتى الذين كانوا يدخنون بشراهة لا أراهم يدخنون! أحاديثهم عن أنفسهم فقط، كلهم يروون طريقة موتهم! حيث كل الطرق على هذه الحياة تؤدي للموت، لكن طريقة انفصال الروح من الجسد ورقيها للسماء مختلفة! هكذا استنتجت عندما أصغيت لسكون المقبرة!.
لا أدري لماذا يربط الناس الخوف بالمقابر؟! أنا أشعر بأنها مجلسٌ حيوي يتحدث فيه الأموات! ونستطيع الإصغاء لحديثهم! ليست مبالغة أني عندما دخلت المقبرة، وجلست أنظر إلى المقابر؛ لهجت بالدعاء لهم، واستشعرت أن هناك تأميناً يشابه تأمين المسلمين بعد دعاء إمام الحرم المكي، إنهم أحياء! لكن لا نراهم، ليسوا أشباحاً ولا حتى لهم علاقة بالجن! ولا أدري لماذا يمزج الناس بين الجن والمقابر؟!
الموت لا يميز أحداً، تماماً كمعدة الجوعى، لا يميزون بين ما هو لذيذ وما هو كريه، همهم هو إشباع رغبتهم وشهيتهم في الأكل، هو الموت كذلك، لكن لا يشبع إطلاقاً. نحن لا نرى الموت، ولا نعرف كيف يحصل سريرياً؛ لكن نرى أثره في المقابر باختلاف أحجامها، وفي قلوب الأيتام والأرامل، نرى أثره في وجه الأحبة حين يفقدون مُحِبهم.
كل شيء حيوي داخل المقبرة! أما خارج السور فإني لم أرَ إلا أمواتاً على هيئة أحياء. ولعل ذلك ما يفسر تسويرنا للمقابر، كأننا نقول: السور يحتضن عالماً آخراً شبيهاً بعالمنا ولكنه أجمل! أجمل لأن الأحياء تحت الأرض لا يغتابون ولا يسرقون ولا يلمزون، بل يدعون لبعضهم البعض، ويؤمِّنون لمن يدعو لهم، ويستبشرون أن مَلَكاً هبط للأرض يخبرهم بأنه قد تصدق عنهم أهل الأرض.
ربما لن أبالغ إن قلنا مبادرة السلام العالمي في حقيقتها تنطلق من المقابر، لا من مجلس الأمن ولا الأمم المتحدة، فمنبع السكون والوئام والتعايش يتجلى داخل سور المقبرة! حتى الذين تعبوا من نصب الحياة حين يجلسون ساعة في سور المقبرة سيخفف الموتى عنهم أعباء الحياة، سيزورونهم في المنام ليخبروهم وينصحوهم، ونعم الناصح والنصيحة إن كانت من ميت، فالموتى هم وحدهم من ختّم شريط الحياة. فقط يحتاجون منا أن ندعو لهم ونتصدق عنهم. ولا عجب حين قال الشاعر (جيت المقابر شكيت الحال، جتني الجماجم تواسيني)! نعم كان محقاً هذا الشاعر العاقل! .
في كل رجْمة (ما يُنصب على القبر من حجر)؛ أرى وجوه الموتى ضاحكة مستبشرة، كأنهم خرجوا بغنائم عظيمة من هذه الدنيا! أخذني أحدهم لركن المقبرة وسألته وبيدي اليسرى كتاب: هل تقرؤون الكتب مثلي؟! ذهب لجاره ثم عاد وفي يده كتاب عتيق! جلس وقال: عند كل واحدٍ منا كتابه الخاص! شدني كثيراً ذاك الكتاب لاسيما أنه معنون بـ(الحياة)، هممت أن أتناوله وأقرأه، ضمه إلى صدره وضم أصابع يده اليمنى كلها ماعدا سبابته، ، لوح بها يمنة ويسرة.
- حسناً، ، كيف أحصل على هذا الكتاب؟!
= لا يمكنك الحصول أبداً! فهو خاص! عندما تكون جاراً لنا ستحصل على ما تريد!
- إذن ولماذا تتفاوت أحجامها وعدد أوراقها؟
= كلما كبر الشخص فوق الأرض زادت صفحات كتابه!
- وما محتواه!
= أنت ستختار ما ستكتبه! ستكتب تجاربك على هذه الحياة بعد أن تموت! وقد تُقبل شفاعتك لترشد من تحب من الأحياء! .
قررت أن أنهي حديثي معه لأتأمل الأطفال وهم يحلقون فوق رؤوسنا! أنهيت زيارتي لهذا المقهى! قلت لهم: شكراً لكم، سأعود لزيارتكم! لم يرد أحد علي سوى طفل لوح لي بيديه. وعلى أية حال إن لم يستطع أحدٌ من أهل الأرض مواساتي، عليّ أن ألجأ للأحياء تحت الأرض فهم الأقدر والأجدر!.
_____
*المجلة العربية 9/9/2018
تعليقات
إرسال تعليق