و كأنما حرام على الأيام أن نتجمع
كعادتي
في كل صباح ، ستيقظت مبكرا لتكون الشمس أول شيء أصافحه ، وأغسل وجهي
بشعاعها من ظلمة الليل ، فلم أبرح محافظا على عادات أهلي القرويين في نظام
نومهم واستيقاظهم . ولكن في هذا الصباح من صباحات مدينة فاس المغربية ،
وجدت نفسي أستيقظ وعلى فمي صوت شجي يردد بعذوبة وشوق : يامرسال المراسيل ..
فشعرت برغبة عارمة لأستمع إلى الأغنية ، وأنا أجلس على الشرفة المطلة على
(سد سيدي شاهد) ، أرشف كوب القهوة المرة, لكِ يا نفس ما اشتهيتي و لي ما
لا أريد!.الشمس تشرق من خلفي و الماء من
أمامي..أنّا لي ذلك؟!..بديت سعيدا منتشيا و كأنما غسلتني ملائكة السماء في طست ثم وضعتني على كتف حورية. من أغنية تلو أخرى و من أطلال تلو
أطلال. أترنم و أشدو و أردد و أغني.
يقطع الجو البهي صوت العم أبو
علي ليفاجئني بابتسامة و تلويحة بيده و يقول لي مرتجلا بضع أبيات للشاعر محمد
الثبيتي:
أدر مهجة الصبح
صب لنا وطنا في الكؤوس يدير الرؤوس
و زدنا من الشاذلية حتى تفيء السحابة
أدِرْ مهجة الصبح
واسفح على قلل القوم قهوتك المرّةَ المستطابة
واسفح على قلل القوم قهوتك المرّةَ المستطابة
أنا:أدر مهجة الصبح حتى يئن عمود الضحى
و جدد دم الزعفران إذا ما
امحى
أنا:انتقاءك عظيم حيث حاكا ما أنا به الآن..فالغيم يدنو و أظن أن
الموسم سيكون مُباركا هذه السنة.
العم أبو علي: أنت الذي علمتني الشعر يا متيم!..أما الموسم فعند الله
الخير الكثير. يَعطيك الصحة.
كان نوعا ما محقا سيدي أبو علي..بدأت معرفتي به منذ أن سكنت
بجواره..كان يجلني ,و كنت أبادله الإجلال. كنت كثيرا ما اسمعه قصة من قصص الأجداد,
و اسمعه الشعر العاطفي, حتى تمنى لو انه في فتوته لكي لا يعيقه بياض لحيته و
شيخوخة روحه و جسده.
تمضي بضة دقائق . ساعي البريد يتجه نحو منزلي..يطرق الباب, أحث السير
من الطابق الثالث إلى الأرضي لأفتح الباب له..فتحت الباب
ساعي البريد:مرحبا.. هل أنت بسام؟
ساعي البريد:مرحبا.. هل أنت بسام؟
أنا: بالتأكيد!..تفضل!
ساعي البريد:شكرا ... و لكن لدي طرد من انجليترا إليك!
أنا: لي أنا؟!..من يا ترى..على كل حال ناولني الطرد
ناولني الطرد .. وسرعان ما ذهب أغلقت الباب بلهفة. مَن المرسل؟ و ما
في الرسالة؟
فتحت الرسالة..ملامحي تتغير بعد قراءة كل سطر..تارة أبتسم و تارة أخجل
و تارة أخرى أشعر بلوعة الاشتياق.
الرسالة كانت حديث ذاكرة و سرد مشاهد من الماضي العتيق. و اشتملت على
عبارات الاشتياق و الحنين و الوفاء. مع شيء من قصائد الأطلال و قصائد نزار و درويش...
.
كانت المرسلة "سلوى" هي صديقة طفولة..هي الآن تدرُس
الدكتوراه في الأحياء بانجلترا...في طفولتي ,كان العصر موعدنا كل يوم بلعب ما نشاء
على فناء منزلهم, انقطعنا فترة من الزمن و ذلك لكثرة ترددي على المشايخ. كُنت
مجبرا..أهلي يظنون أن بي مس من الجن, لقد سئمت الحياة.. و سئمت من بساق ذلك الشيخ
و سئمت من خناقه لي و ضربي و سكب خلطته المسببة للشقيقة على رأسي. ظليت أعاني قرابة الخمس سنوات حتى توفي والدي ثم لحقت به والدتي.
بعد وفاتهما شعرت بأنه لا حاجة لي بالعيش هنا, لم يعد يطيب لي العيش في قرية شعرت
بأنها مظلمة في عز الظهيرة.. واستوحشت الوجوه أمامي..شعرت بالوحدة رغم أن حولي
الكثير, لكن لم أجد فيهم ما يستحق أن يكون مُجلِّيا لوحدتي.أنكرتني الوجوه و
رفضتني الأرض. تَركة أبي أخذت منها ما قسم لي ربي و الأراضي تنازلت عنها.و كأني
علمت بأن القدر سيسوقني إلى فاس..كان عزائي الوحيد هي سلوى و لكنها سافرت لتكمل
دراستها في انجليترا..بعد سفرها لم أطيق العيش هنا فقررت أن أرتحل للمغرب, حيث
تسكن خالتي، كان ذلك بعد ابتعاث سلوى بسنة ونصف. لم نلتقي إلا ليلة من صيف عام 200
في لبنان في إحدى الفنادق. و الآن مضى على لقاءنا قرابة السبع سنوات.
وضعي المادي جيد فقد ولاني زوج خالتي على إدارة مجمع تجاري ضخم في
فاس. كثيرا ما تصر خالتي على الزواج و لكن لا أفكر فيه, فأنا اشعر بأني في بداية
حريتي فمنذ سبع سنوات و كل سنة يُفك قيد من قيودٍ كُبلت بها في بلدي.
ليس ببالي أنثى لأتزوجها..حتى
صديقة الطفولة لم أفكر بها, أشعر بأنها أختي..و يُقال أنها تأخذ من ملامح أختي
"لُجين" التي توفيت غرقا في البئر و هي في السابعة من عمرها.
كنت متلهفا للقاء سلوى..مشتاقا إليها, اتصلت بالرقم الوارد في
الرسالة, ردت علي, تعمقنا في الحديث ساعات
طوال. أخبرتني بأنها في الواحد و العشرين من يوليو ستسافر للسعودية و تمضي أسبوعا
كاملا ثم ترتحل إلى المغرب بضعت أيام ثم إلى اسبانيا ,استغليت قدومها إلي بتجهيز
حفلة عيد ميلادي في الثالث من أغسطس.استعديت لتجهز الحفلة فور إغلاق الهاتف, سيكون
يوم ميلادي الجديد.
في الخامس و العشرين من يوليو اتصلت بي و هي في بلدنا,كان صوتها يوحي
بشيء من الحزن والأسى , لم تخبرني ما بها..ضل قلبي يخفق, و أنفاسي تطول . في الأول
من أغسطس, حاولت كثيرا الاتصال بها لأعلم متى الوصول للمطار؟ حتى استقبلها..لم
ترد,, و لن ترد,,أعرف سلوى جيدا..لابد أن أمرا ما أشغلها ,إن انتهت ستتصل بي...
مضى اليوم الأول, لم تأتي. مضى اليوم الثاني ,لم تأتي. في اليوم الثالث وهو يوم
الاحتفال.جهزت أدوات حفلتنا في آمل أن تأتي مفاجأة.و لكن كان الواقع مخيب للآمال.
بدأنا بإطفاء الأنوار لإشعال الشموع. رن هاتفي برقم من بلدي,,قلت للأسرة بصوت
مرتفع و سريع:أغلقوا الموسيقى! و التزموا الصمت.
المتصل: السلام عليكم
أنا :عليكم السلام, من المتصل؟
المتصل:لا أريد أن أخبرك من أنا فأنت لم تعهد علي حمل أخبار ليست
سارة!
أنا: ماذا حل بسلوى؟!
المتصل: قُتلت.. أثناء عملية سطو مسلحة على بيتهم.
أغمي علي..أمضيت أسبوعا بلا وعي في العناية الخاصة, فعلا كان ذاك يوم
ميلاد جديد لي..لكنه أسود قاتم.
شهرا كاملا أهذي بقصائد الأطلال و الشوق والحنين هي غذائي و هي عزائي, و محياي و هي مماتي
لم أسلم من المعتقد المحلي في الطب عند العوام. أخذتني خالتي و زوجها
إلى أعلى جبل يُقال له جبل "سيدي شمهروش"..يقصده من به مس أو عين
.شمهروج هو ملك الجن و هو الذي يبعد الجن المتملك بالجسد ببضع قرابين,
كنت مجبرا, لا أريد التداوي بأوهام,يكفي ما لاقيته من بساق و ضرب عندما
كنت في بلدي . يا إلهي, هل لزاما علي أن
أكون ضحيةَ خرافةِ القبور و الجن؟!..كل ما في الأمر أنني أهذي..فقط.. و
أبحر مع الشعراء بشعرهم. مع ذكريات الطفولة التي أمضيتها مع سلوى..
بروحي تلك الأرض ما أطيب الربا وما أحسن المصطاف والمتربعا
واذكـــــــر أيــــام الحمى ثم انثني على كبدي من خشـــية أن تصدعا
وليســــت عشيات الحمى برواجع اليــــــك ولكن خل عينيك تدمعا
كأنّا خلقنـــــا للنـــــوى وكأنــــما حـــرام على الأيــــام أن نتجــــمعا
واذكـــــــر أيــــام الحمى ثم انثني على كبدي من خشـــية أن تصدعا
وليســــت عشيات الحمى برواجع اليــــــك ولكن خل عينيك تدمعا
كأنّا خلقنـــــا للنـــــوى وكأنــــما حـــرام على الأيــــام أن نتجــــمعا
تعليقات
إرسال تعليق