غروب القرية

        لقد اختفت هتافاتٍ كنا نسمعها قُبيل المغرب, و كانت رائحة الغنم تعبر المساريب , خوار البقر , صوت القبس , و الدواخن التي تنبعث من بيوت الحجر. منذ زمنٍ لم أسمع سُعدى تنادي ابنها عائض لمراح الغنم, و منذ زمن لم يتحايا أفراد القرية بأصواتهم ذاك على سفح الصافح يرعى قطيع غنمه و هذا ببطن الوادي يهندس الثرى و يزرع الارض.

           القرية كانت دولة بكل معانيها , العريفة و الموامين , حِماها , و شِعابها , غابرتها و ركائبها , وديانها و خلجانها, شعبها و نباتاتها و حيواناتها , حِرَفيوها و كهيلها و شيبانها , شبابها و رجالها, فتياتها!.. كل يوم تنتج هذه المكونات رواية!. منذ بزوغ الفجر و حتى مغيب الشمس , و أيضا الليالي الطوال الباردة على مرضاها و جِياعها, لا أبالغ إن قلت حتى سواعد الرجال التي بها أثر الحجارة ستكون رواية , أو الشيب الذي استوطن مفرق رؤوس شيوخ القرية. 

        حدثني عن عاداتهم و تقاليدهم في تعاملهم مع الأرض . عن رقصاتهم و شدوهم و أهازيجهم في مواسم ذرو الحنطة أو الذرة و في حصادهم و دياسهم في الجُرن .
           أين صوت المالحي و جريبيع و طرق الجبل الذي تتلاعب به جبال القرية و تحمله الريح بين الأودية!؟, و الناي الذي من العتم ما حاله بعد أن تخلت عنه يَدي صالح دمهاس, و هل يشكو المحراب حنينا لبخيت ابن علي و حسن محمد و أحمد بحرية؟! كان أذانهم يشق الأرض و يبلغ السماء , و كانت " حي على الصلاة" تمسك بفؤاد القروي ليترك ما بيده ثم يمضي للكظامة أو الفلج يتوضأ ثم يصلي .
 
        اختفت الأصوات و كان اختفاؤها مرحلة جديدة و رواية جديدة , تمتاز بالسكون , الأرض قسَت و انبتت الشوك والزقوم , بدل قِفاف الحنطة التي كانت تنتجها !, و حجارة الركائب اندثرت , انسدت الخلجان و اختفت كل شيء و تغير كل شيء,,لقد تغير كل شيء... بقيت قصصهم نديرها بمجالسنا مع فناجيل الشاي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءات في "باي باي لندن" لـغازي القصيبي

التفاحة الفاسدة*

شمس الموتى